الْإيمانُ بِاللهِ فِي الْإسْلامِ كتاب

إبراهيم حلمي قارصلي


ملخص

إنّ الوجود بالنسبة للمسلم لا يُمكنُ إيضاحُه إلّا بالإيمان بالله تعالى، وإنّ الإنسان والكون والماضي والمستقبل والزمان والمكان والّذي يُرَى وما لا يُرَى وجميع المخلوقات إنما يكون لها معنى وقيمة بالإيمان بالله تعالى. إنّ الله تعالى حقّ وهو الأجدَرُ بقول «كُنْ»، فلا أوّل إلا هُو، ولا آخِرَ إلا هُو، وهو وحدَهُ الباقي، فهو الأزَليّ والأبَديّ، وما عداه فما هُم إلا مَخلوقات مَحدودة بالزّمن والـمَكان وماضيَةٌ إلى نِهاياتِـها.

وُجودُ اللهِ

ما هُوَ الإيمانُ؟

عندما يأتي الإنسانُ إلى الدّنيا فإنّه قَبْلَ كل شيءٍ يُحاوِلُ مِن خلال حَواسِّهِ أنْ يَتحسَّسَ الـمَوجوداتِ التي حولَه، وهذه الحواسّ عبارةٌ عن نوافذَ مفتوحةٍ على الدّنيا المادّيّة الّتي تُحيط بالإنسان، وبفضلها يَستطيعُ الرُّؤيةَ والسمّاع ويتمكّن من الشّعور والإدراك، والله تَعالى يُثيرُ انْتِباهَنا نَحوَ هذه الحقيقةِ مِن خِلالِ قَولِه: [وَاللهُُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (النّحل 16/78) .
إنّ أوَّلَ ما يُثيرُ الإنسانَ ويجعلُه يتطلَّع إلى مَعرِفته هو البِيئةُ الـمَادّيّة الّتي حَوْلَهُ، ولكنّ معرفتَه لا تكونُ منحصِرةً بذلك الـمُحيط فقط، مع نُمُوِّه الجسمانيّ تَنْمُو كذلك مهاراته الحسيّةَ والعقلية، ومع الزّمن تظهر عليه التّطورات الذّهنيّة، فيسعى لتجاوز الأشياءِ الْـمُدرَكة مُنتَقِلًا في مَجالات إلى مَجالاتٍ أُخْرى مِنَ الـمَوْجودات، ويَرَى في نفسِه أنّه مَخلوق لديه قوّةً وقُدرةٌ لمعرفة عالَمٍ هو غير هذا العالَم الـمَرْئِيّ.
الإنسانُ يُفكّر بِنفسِهِ ويعملُ على فهْم الوُجودِ، ولَديه فُضولٌ حولَ ما سلَف ومَضى، وينسج خيالا فيما يتعلق بالآتي والـمُستقبَل، ويُحاول كذلك أنْ يعرف مَعنى الحياة، لا يُوجدُ وبطبيعة الحال كائن حيّ آخر لديه مثل هذه الـمَواهِب.
إنّ الإنسانُ يُدرِكُ أنّ مَجيئَه إلى هذه الدّنيا لم يمكن يإرادته وتركه لها أيضا ليس مُرتبطًا بِه، فمِن الـممكِن أن تنتهي حياتُه في زمان مجهول ومكان غير مَعروف، ورُبّما يكون مُضْطَّرًا لِتَرْكِ هذه الحياةِ الّتي أحبَّها كثيرًا، ويُلاحِظُ أيضًا أن هناكَ الكثيرَ مِن الأشياء التي تسير وفقَ إرادةٍ خارجَ إرادتِـه. فعلى سبيل الـمثال: أمّه وأبوه ليس هو مَن اختارَهما، ولم يُسألْ عَنْ جِنْسِهِ، ولم يتمّ تَعيينُ شكل وجهه مِن قِبَلِه ولا لون شعره وعينَيْه.. إذَنْ مَنْ هُوَ صاحِبُ القُوَّةِ العَظِيمَةِ الّتي تَتَحَكَّمُ بِحَياتِهِ؟ 
يُحاوِل الإنسانُ أنْ يَفْهَمَ جَميعَ الـمَخلوقاتِ الّتي في الطّبيعة الحيّ مِنها والجماد، والصَّغير والكبير، والجميل والقبيح،وبِمُجرَّدِ النظر إلى الأرضِ والسماء والبحار والأنهار تَراها مُمْتَلِئَةً بأعدادٍ لا حَصْرَ لها مِن الكائنات الحيّة، وترى الجبال والسُّهُول والـمُروج مُزَيَّنةً بآلاف الأنواع مِن النّباتات والأشْجار والوُرود، وهنا نَعودُ إلى السّؤالِ مَرةً أخرى مَنْ هُوَ صاحِبُ كلّ ذلك؟
انتَشَرتْ في أرجاء الـمَعمورة الـمئاتُ مِن الأمم المـختلفة في أعْراقِها وألوانها وأَلْسِنتها وأشكالـها، وتَوزَّع في كل ناحية الملايينُ مِن النّاس الّذين هُمْ لَيْسوا على هَيْئةٍ وشَكْلٍ واحِدٍ، فلا أحدَ مِنهم يُشبِهُ الآخَرَ، ومع رؤيةِ هذا التّنوُّعِ الكبير في الخَلْق تزدادُ شِدَّةالدّهشة الّتي تَغمُرُ الإنسانَ، ويُثارُ فُضولُه لِـمَعْرفةِ الْقُدْرَةِ الْـمُبْدِعَةِ الّتي تقِفُ خَلْفَ كُلّ ذلِكَ.
وعندما يَنظُر الإنسانُ بِعين الدِّقّة إلى الوقائعِ الـمَوجودةِ حولَهُ فَإنّه يُلاحِظُ أنّ الطبيعةَ ليستْ في حالةِ سُكونٍ أبدًا، فهو يُشاهدُ حقائق ذلك النّشوء الرّائع سواء في الحيَوانات أم في النّباتات، ابْتِداءً بالحشراتِ والطُّيور وانتهاءً بالعَناكب والأسماك، وهنا يُمكِننا أن نتساءَلَ: مِمَّنْ تأخُذُ هذه الكائناتُ خُططَ العملِ تِلْكَ؟ هل يُعقل أننا سنَنْظُر إلى تلك الأعمال الـمِثاليّة التي أنجزتـها على أنّـها نَجاحٌ ذاتيٌّ لِتلكَ الْـمَخْلُوقاتِ العاجِزة؟ أم أنّه يوجدُ هُنا مَنْ يُديرُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ صاحِبُ عِلْمٍ وقُدْرَةٍ لا مَثِيلَ لَهما؟
والقرآن هنا بكونه كتابا للحياة يُجيبُنا على هذه الأسئلةِ بِقَولِهِ تعالى: [إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً...] (الأنعام 6/95-98)
إنّ الأرضَ كَرَحِم الأمّ الّتي تَضمّ إلَى صَدْرِها فلذة كبدها الّذي أثْمَرَ في داخِلِها وتَسُدُّ جَميعَ أنواعِ احْتِياجاتِـه وتُطعِمُه وتُربِّيه،وهكذا هو حال الأرض عِندما تَضُمّ إلى صدْرها جميعَ أنواعِ الكائناتِ الحيّةِ وتُلَبِّي جميعَ مُتطلَّباتِـها.وكأنّ الأرض مأدُبة عَجيبة قدْ فُرِشَتْ أمامَ إنسانٍ والإنسان يشبه ضَيْفًا جَلِيلًا وُضِعَتْ أمامَه جَميعُ أنواع الـمأكولاتِ، لقد تمّ تحضيرُ كلِّ ما هُو ضَروريّ له، وعندما يُفكّرُ هذا الإنسانُ بِهذه النِعَمِ الّتي قدّمَها الله لأجلِه فلا يُمكِنُه أنْ يمرَّ بها وكأنّـها لم تَكُنْ، وفي ذلك يقول تعالى: [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ] (فاطِر، 35/3) 

1